القلق من فيروس كورونا: دماغك يبحث عن اليقين

القلق من فيروس كورونا: دماغك يبحث عن اليقين

مايك نيكونشوك، كبير الباحثين في "بيوند كونفليكت"

بصفتي عالم أعصاب تطبيقي، أمضي الكثير من وقتي أتوجه في كتاباتي إلى الجمهور العام بشأن الدماغ، بما في ذلك صياغة الدليل الميداني للتثقيف النفسي في وقت الازمات، وهو أداة تربوية نفسية مصممة لمساعدة المجتمعات المتأثرة بالصدمات على معرفة كيفية تأثير الإجهاد على الدماغ والجسد، وكيفية تطوير المهارات لإدارة الإجهاد التالي للصدمة والقلق والاكتئاب واليأس. 

وخلال السنوات العشر الماضية، عملت ضمن مجتمعات كانت الصدمات التي تعرضت لها كبيرة وواضحة وصارخة: من الحرب إلى التشرد القسري والعنف المجتمعي. لكن اليوم، يدور العالم بأسره في فلك فترة مؤلمة موسّعة، حيث يتعامل مع تهديد مجهري هزّ حتى الصميم مجتمعات كانت مستقرة. 

وأنا أؤمن بعمق بمقولة أن المعرفة هي القوة. لهذا السبب أمضي الكثير من الوقت لأجعل علم الأعصاب الخاص بالإجهاد والصدمة متاحًا لأولئك الذين يمكنهم الاستفادة إلى أكبر حدّ من هذه المعرفة. 

وكما هو الحال في أغلب الأحيان، بدأ هذا العمل كـ”بحث شخصي” (أي بحث عني وعن المشاكل التي أعانيها)، يتناول معاناتي التي لم تفارقني يومًا مع اضطراب الوسواس القهري. وخلال تحقيقاتي، كانت من بين الأشياء الأولى التي صادفتها مجموعة من الكتابات تكشف المصطلح القديم لاضطراب الوسواس القهري وهو: مرض الشك.

إن اضطراب الوسواس القهري يتعلق إلى حدّ كبير بالشك؛ شك تخفف من وطأته مؤقتًا فقط الأفعال والوقائع والمنطق والعقل. إنه شك يشير بشكل خاطئ إلى أنه باستطاعتك، أنت مالك الدماغ المعني، التحكم بمصيرك الخاص من خلال التفكير وإعادة التفكير ببعض الأفكار والسيناريوهات (فكرة قهرية) وإظهار وإعادة إظهار بعض السلوكيات (سلوكيات قهرية).

هذا ويكشف اضطراب الوسواس القهري ميزة مركزية لدماغ الإنسان وهي حب اليقين. فأدمغتنا تحب اليقين إذ يساعدنا ذلك على البقاء على قيد الحياة. 

فدماغك يتكهن بشكل دائم بشأن التهديدات المحتملة على سلامتك، و بشأن ما تراه وما يمكن أن تراه، و بشأن ما تشعر به وما قد تشعر به. إنه يتنبأ بالتهديدات على مستوى جزء من الألف من الثانية من خلال التعويل على روابط أنشأها استنادًا إلى تجربة وتدخلات سابقة، ومن ثم تنسيق الردّ الأفضل لمواجهة هذه المخاطر والبقاء على قيد الحياة. 

على سبيل المثال، إن استجابات المواجهة أو الهروب للأوضاع المسببة للإجهاد هي، في تلك اللحظة، استراتيجيات تكيف منطقية لمواجهة التهديد. وفي معظم الحالات، يكون لأدمغتنا آليات مُجهّزة للهدوء وتليين استجاباتنا للتهديدات، سواء الحقيقية منها أو الوهمية.

لكن الأهم هو أن القدرة على الهدوء تعتمد بشكل كبير على تبدّد التهديد أو معرفة ما هي الخطوة المقبلة أو موعد عودة الأمان.

ولا يمكن للدماغ معرفة ما يحمله المستقبل إلا من خلال توافر معلومات كافية ذات صلة. 

وعليه، وبحسب طريقة عمل الدماغ، فإن هذا الوباء يرعبنا جميعنا إذ لا يمكن لأحد معرفة ما الذي سيحصل. فخطر الإجهاد المؤكد والاستجابات للخوف (بما في ذلك القلق) يُحدق بنا جميعنا، نظرًا إلى أن المعلومات التي بحوزتنا غير كافية أو غير تامة أو غير حاسمة. وأنا على تمام الثقة بأن العديد من بينكم غاص في هذه الدوامة: 

 

ما الذي سيحصل إذا أغلقت سلاسل الإمدادات؟

ما الذي سيحدث إذا انقطع الانترنت؟

ماذا إن كنت أعاني حالة صحية كامنة لم أعرف بها؟

ماذا إن نفذت أموالي؟ 

ماذا إن لم تتسنّ لي رؤية من أحبهم من كبار السن من جديد؟ 

 

وبما أنني أعاني منذ فترة طويلة من الاضطراب الوسواسي القهري، كانت سلسلة الأفكار التي تؤدي إلى حالة “حسنًا، لقد تفاقم الوضع بسرعة” أمرًا عاديًا بالنسبة إلي. وقد تعلّمت كيفية التعرف إليها مع الوقت. كما وجدت سبلًا لإدارتها.

فدوامات الأفكار كتلك الواردة أعلاه غير مفيدة أبدًا تقريبًا. لكنها جهود مفهومة يبذلها الدماغ الذي يحاول إبقاءك على قيد الحياة بشكل محموم. وانطلاقًا من هذا الإدراك، يمكننا ربما أن نكون أقل قسوة على أنفسنا، وسط العمل في الوقت نفسه لمنع التداعيات المشروعة على الأحباء والعاملين في مجال الرعاية الصحية الذين يتعاطون مباشرة مع المرضى.

وقد عشت أوقاتًا فيها توتر وتقلبات بسبب فيروس كورونا المستجد، شأني شأن الكثيرين. فالعديد من الأشخاص يعانون سواء جماعيًا أو فرديًا من الإجهاد والخوف والقلق. إنها استجابة طبيعية إزاء حدث غير طبيعي. وأكرر ما قلته مرة أخرى. ما يشعر به الكثيرون هو رد طبيعي ومفهوم ومنطقي إزاء حدث غير طبيعي.

هذا لا يعني أنه يجب أن نترك أدمغتنا مضطربة وبدون سيطرة. فنحن لدينا المسؤولية والقدرة على ضمان ألا يدمرنا الإجهاد والخوف أو يدمّر من حولنا.

ومؤخرًا، أجريت حديثًا مع سامر، واحد من ميسري الدليل الميداني في مخيم الزعتري للاجئين في الأردن، حيث يعيش الناس في ظل أقسى إجراءات الحظر في العالم. ويعمل فريقنا يوميًا للتصدي للمعلومات الخاطئة وإصدار محتوى تعليمي للتخفيف من سرعة تدفق الأفكار التي تراود الأمهات والأباء الذين يعيشون في أحياء مكتظة و يساورهم القلق إزاء ما قد يحصل في حال تفشي مرض كوفيد-19 في مخيم اللاجئين حيث يعيشون.

وأثناء حديثنا، تنبّه سامر لكثرة كلامي حول الوقائع والأرقام الخاصة بكوفيد-19، حتى أنني تكلمت أكثر بكثير مما كان بحاجة إلى سماعه أو معرفته.

وبضحكة المنتصر، قال “أنت تتكلم بسرعة فائقة. هل تحتاج إلى التنفس والاستراحة قليلًا؟ أطلب من رئتيك أن تخبرا دماغك بأن يهدأ”.

وتابع سامر، مقدمًا لي أحد تمارين التنفس الواردة ضمن الدليل الميداني، وهو تمرين يقوم على استخدام النفس كوسيلة تحفيز نوعًا ما لتهدئة الدماغ:

“أنت تعلم أن الدماغ يرسل إشارات إلى الجسد. لكن الجسد يردّ بدوره الإشارات والمؤشرات إلى الدماغ. مثلًا، إن دماغك يفسر التنفس بطريقة سريعة وغير عميقة على أنه مؤشر خطر. بشكل أساسي، عندما يتنفس جسدك وكأنه يعاني إجهادًا، يتلقى دماغك مؤشرات على أنه بخطر، ما يؤدي بالتالي إلى تغذية راجعة سلبية . فالإجهاد يحدث فرط في النفس، و فرط التنفس النفس يشير إلى خطر إضافي. ومن خلال إبطاء النفس والتركيز على الزفير، يمكننا زيادة استجابة الجهاز العصبي اللاودي، الذي بدوره يبطئ ضربات القلب ويرسل إشارة إلى الدماغ والجسد للاسترخاء”.

وقد قاطعته مُقرًا بأنه على حق، إذ أعلم أنني – على غرارنا جميعنا – أملك بعض الأدوات الفطرية للتعامل مع عدم اليقين الذي لا مفر منه في الوقت الراهن.

لذا بدأت أتنفس. كما بدأت باستعمال الشيء الوحيد الذي لا يزال بإمكاني حتمًا التحكم به، وإن كان بطريقة غير واعية عمومًا، ألا وهو طريقة تنفسي. 

يجسّد الدليل الميداني التعاون الفريد الذي جمع بين “بيوند كونفليكت” و”كويست سكوب” للعمل على معالجة الأعباء العاطفية والنفسية المترتبة عن الهجرة القسرية والصدمة والعنف.

Related Posts