حول وصمة العار والحواجز الأخرى التي تقف أمام العناية بالصحة العقلية
Haya Halawحول وصمة العار والحواجز الأخرى التي تقف أمام العناية بالصحة العقلية
في صيفٍ حارٍّ جدًّا من عام 2012، كنتُ مستلقية على الكنبة وأطرافي ترتجف. فلم يغمض لي جفنٌ منذ أيامٍ، وكنتُ أبذل قصارى جهدي لاحتباس دموعي بينما أستمع إلى أفراد عائلتي في المطبخ وهم يحاولون تخمين ما يحصل لي. إنها ليست سوى أصداء القصف والطلقات النارية، فباتت حمص مدينة أشباح.
لا أنفك أتذكر تلك المرحلة من حياتي، وقد لازمتني لأعوامٍ من الزمن. فكنتُ أشعر بالاختناق بسبب حدة القلق والتوتر، ونوبات الهلع اليومية، واليأس. وبدا الأمر وكأنني بدأتُ أفقد إحساسي بالواقع، وعجزتُ كل العجز عن رؤية بصيص نورٍ في نهاية النفق. فكنتُ أُرغم نفسي كل يوم على القيام بالحد الأدنى من المهام اليومية تمامًا كالجثة الحيّة. وما زلتُ أذكر ارتباك عائلتي وأصدقائي المقرّبين بسبب حالتي. فلم يخطر ببالي يومًا، ولا ببال أي أحد، أنّ ما كنتُ أختبره هو في الواقع نوبات هلع. حتى أنّ الطبيب الوحيد الذي تمكّنا من العثور عليه، وهو مختصٌّ في الطب العام، هزّ كتفَيْه وقال لوالدَيّ إنه لا داعي للقلق، إذ ما أشعر به ربما هو الخوف والتوتر. ولم يأتِ أبدًا على ذكر الطبيب النفسي، كما أنه لم يتحدث أبدًا عن الصحة العقلية.
بعد أسابيعٍ من القلق الحاد والهلع، وُصِفت لي الأقراص المنوّمة التي لم تساعدني على الإطلاق. فكنتُ أعجز عن النوم وأخسر الوزن ولا أرى سوى الواقع الرهيب الذي كنتُ أعيشه. وقيل لي على غرار الكثيرين إنني شخصٌ ضعيفٌ: “لقد أصابك الجنون!” و”هذا كله من نسج خيالك”. فتمّ الاستخفاف بمشاعري ونبذها، وعجزتُ عن تمالُك نفسي مهما حاولتُ. فلا مفرّ من مسلسل الرعب الذي كان يدور في رأسي طيلة الوقت.
كان الأمر مؤلمًا. فالحرب مؤلمة. ولم أكن أفقد صوابي ولا كنت أرغب في الاعتياد على الوضع. فقد سُلبَت حياة معظم السوريين منهم، وكنا نشاهد بلدنا يحترق بسرعة أمام أعيننا. ولزمني وقتٌ طويلٌ لاستيعاب الحرب والآثار النفسية التي خلّفتها في نفسي، لكنني كنتُ لا أزال أتردد جدًّا في طلب مساعدة المختصين حتى بعد أن غادرتُ البلاد.
ما لا تجوز تسميته
لم أنشأ في مجتمعٍ كان الحديث فيه عن الصحة العقلية أو التماس المساعدة من المختصين أمرًا طبيعيًا. بل كان من المحرّمات. فلم أسمع عن ذلك حيث ترعرعتُ سوى في وسائل الإعلام، وكم كان يبدو تَناوُلُ هذا الموضوع فظيعًا. فتمّ تصوير طباع الأشخاص المعنيين على أنها مختلّة وغير قابلة للعلاج، كما لو أنه يُقصد تخويف الناس ممَّا لا تجوز تسميته: أي المرض العقلي.
ما زال الجهل التام والاستهتار المحيطان بالموضوع موجودَيْن في المجتمعات العربية، وإذا أقدمتَ “لا سمحَ الله” على ذِكر أي نوعٍ من المعاناة النفسية، ستواجِه عشرات الآراء الشخصية التي تعتبر أنك “لا تقرأ القرآن بشكلٍ كافٍ” أو أنه “عليك أن تصلّي” أو أنها “مجرّد مرحلة عابرة”. فالإنسان المريض عقليًا هو الذي ينقصه الإيمان بالله، حسب ما قيل لي مرّتين، وهو رأيٌ آخر جريءٌ جدًا يسود في ثقافةٍ طابعُها دينيٌّ إلى حدٍّ كبير.
يحاول الكثيرون في المنطقة مراعاة روايات القوة، التي لا يجوز أن يتخللها أيُّ نوعٍ من المرض. لذا تبقى معاناتنا سرية بما أنّ الحديث عنها سيقلل من شأن ما يُحكى. ولا يجوز أبدًا إخبار الغريب عن “سرّك العميق”! ناهيك عن الأفكار المغلوطة بشأن الدواء وآثاره الجانبية والخوف من الإدمان.
ما يساعد على تفسير انخفاض عدد الأطباء النفسيين والمعالجين الناشطين في المنطقة، وصعوبة إيجاد طبيب جيّد وجدير بالثقة، هو ارتفاع عدد العرب الذين يعيشون في الفقر والذين لا يستطيعون أن يدفعوا المال للحصول على الدواء والعلاج. ففي منطقةٍ مزّقتها الحروب والنزاعات، يُنذِر هذا النقص في أعداد مقدمي خدمات الصحة العقلية بوقوع كارثة.
تجلّي الرؤية
شكّل العام 2019 منعطفًا بالنسبة إليّ. فأمسكتُ أخيرًا بزمام الأمور، وبعد البحث عن طبيب نفسي ماهر وقراءة عدة تعليقات، حجزتُ موعدًا وتمّ تشخيصي. وكانت لحظة “الدهشة”. فجعلني التشخيص أؤمن بنفسي وبما يحاول جسمي أن يخبرني إياه. وأمضيتُ سنواتٍ أتجنّب المشكلة وأتفادى مواجهتها. فقد كانت ولا تزال مكروهة. وحتى بعد تشخيصي، كان عليّ أحيانًا أن أُثبت قلقي واكتئابي للجميع كَيْ أستحق هذا التشخيص والوصفة الطبية.
وما كان تقبّله الأشدّ صعوبة هو أنني بقيت أنتظر أن يتغيّر الناس من حولي، وأن يُصغوا بانتباهٍ أكبر، وأن يروا العلامات، لكنّ التغيير لم يحدث أبدًا لأنّ الإجابة كانت تكمن في الداخل. فأنا هو الشخص الذي كان وما زال يعاني، وأعرف ما أختبره أكثر من أي أحد. ولا أُريد أن أنتظر أن يؤكّد الآخرون على مرضي حتى أطلب المساعدة، وإذا كنتُ لا أؤمن بوصمة العار، فلمَ لا أتصرّف وأُحدِثُ تغييرًا؟ ومهما شرحتُ أعراضي ووصفتُها، فلا أحد يعرفها أفضل منّي.
من دون المساعدة الطبية، لم أكن لأتمكّن من تحقيق الإنتاجية والإبداع، أو من الضحك والتواصل، أو من النوم وتناوُل الطعام بشكلٍ مناسبٍ، أو من التمتع بأي نوعٍ من أنواع الحياة الطبيعية. ولم يردعني مرضي عن الاستمتاع باللحظة، إلا أنّ حرمان عقلي وجسدي من تلقي المساعدة هو الذي ردعني. لذا لم أعُد أقبل الآن بأي رأي غير مرغوب فيه أو ما ينمّ عن الجهل بشأن هذه المسألة – فلم يساهم ذلك سوى في إعاقة قدرتي على التعافي وإحراز التقدم – ومنّي كل الامتنان والعرفان للطبّ والعلم إذ أعطياني فرصة ثانية لأعيش نوعًا من الحياة السعيدة.